الذي كان جمال التلاوي

كتابة الهوية.. قراءة في مجموعة ( الذي كان ) للأديب د. جمال التلاوي بقلم / محمود عبد الصمد زكريا

كتابة الهوية..
قراءة في مجموعة ( الذي كان )
للأديب د. جمال التلاوي
بقلم / محمود عبد الصمد زكريا
ربَّما هناك اعتبارات كثيرة تغري بالبحث والتنقيب وسبر ألأغوار للحديث عن الرجل العالم ؛ الباحث ؛ الأستاذ ؛ الناقد ؛ الإنسان ؛ المتحدي .. الخ ..
قبل المؤلف ؛ أو الكاتب ( القاص ) الأديب الدكتور / جمال التلاوي .. ولكن سوف أعترف الآن أني بين يدي أديب ماكر بقدر بساطته ؛ عميق بقدر عفويته ؛ مناور بقدر فطرته ؛ صاحب رأي ورؤية ورؤيا ..
وإذا كانت الكتابة الإبداعية هي خبرات قوية وثيقة الصلة بتلك الحالات النفسية الحديِّة ؛ فلتكن العبارة منطلقاً ومدخلاً حيث أنه : ( لما احتار الحارس في أمره ؛ أبلغ الطبيب المختص؛ الذي انتقل إليه .. فتح القفص .. شاغله ؛ مد يده ليقف عليها لكنه لم يفعل.. اطاره من مكانه لمكان آخر .. أضطر بمساعدة الحارس أن يمسكه .. رفرف بجناحيه .. خفق قلبه كثيراً واشتد جسمه سخونة ؛ لكنه لم يخرج أي صوت .. اضطر الطبيب أن يتركه..)

( قصة الطائر الذي كان ص 5 )

هي كحلم يمزق تمسكنا بالمألوف الاعتيادي ..
( فجأة توقف عن الغناء الذي اعتاده منه رواد حديقة الحيوان .. ينظر إليهم بعينين حادتين ؛ لكنه لا يرى ما يرون ..)
( نفس القصة ص 6 )
عندما نقرأ أو نكتب فإنما نأخذ سبيلنا عبر أقطار مجهولة بمساعدة خريطة ما ..
( بشفتيها أطلقت صافرة ؛ ثم أتبعتها بعزف عذب شجي .. رفرف الطائر .. انتقل إلى مكان يدها .. كان يتبعها ؛ ثم أطلق صوتاً بدا للوهلة الأولى صرخة نشاز ؛ حاولها مرة ومرة ؛ ثم انتظم في الغناء ؛ كانت تعزف بفمها ؛ ويعزف بفمه )
( نفسها ص 8 )
لكن اللغة المبدعة تخلق عالمها الخاص المتجدد السريع التغير ؛ المقاوم لكل ما هو مألوف ومعتاد .. هكذا يصبح المنظر الطبيعي الخاص بفن الكتابة الإبداعية مأهولا ً بالغرابة ؛ وربما بالغربة والاغتراب ؛ غرابة ربما تجعلنا ننقسم علي أنفسنا بحيث نصبح بعبارة أخري منفيين اختياريا ً..
عندما تواجه الذات عالم الإبداع أو تدخله ؛ فينبغي أن تتهاوي بعيدا ً كل أشكال المألوف والعادي ؛ أو هكذا يبدأ الفن فينا عندما نفقد أثقالنا ؛ تلك التي تنوء بها عقولنا وأجسامنا.
( هي تحرك يدها فوق الأسلاك ؛ وهو ينتقل معها ؛ يرفرف بجناحيه .. هي تعزف موسيقى بفمها ؛ وهو الذي عاد له صوته الجميل يعزف أيضاً ) ( نفسها ص 8 )
ونحن لا نفقدها دون مقابل علي كل حال ؛فالإبداع يمنحنا بديلا ً عنها ؛ يمنحنا شعورا ً خافيا ً وثريا ً بالدهشة والمتعة .. شعورا ً يعزز فينا دوافعنا الغير قابلة للتحكم فيها ؛ تلك الدوافع المملوءة بالبهجة والسعادة ..
( ظل الجميع يشاهدون ما يحدث بانبهار ؛ انطلقت الصفارات في أنحاء الحديقة ؛ وفهم الزائرون أنه موعد الانصراف ؛ كانت آخر المودعين ) ( نفسها ص 8 )
ظلال تومض وتطلق شررها ؛ ونحن في مواجهتها نعلو ؛ نحن نرتفع – أو ربما أيضا ً نهوي ونسقط – في مثل هذا العالم الذي أثارته في داخلنا تلك اللغة المثيرة للخيال والصور ؛ وبها تتجدد في داخلنا وتصحو كل الذكريات القريبة والبعيدة تتلاعب بنا ونتلاعب بها في نشوة ٍ وانتعاش ..
( كلما ابتعدت .. خفت صوتها بالنسبة له .. علا صوته هو .. صوتها يخفت .. صوته يعلو .. يخفت .. يعلو .. يخفت .. يعلو .. حتى اختفت .. وإلى الآن صوته الحزين يعزف ليل نهار دون توقف أغانيه الشجية ) ( نفسها ص 9 )
نعم .. لا شك أن هذا الطائر هو رمز لكل ذات محبوسة ؛ منفصلة عن عالمها ؛ مغتربة في ذاتها ..
جاء في معجم مصطلحات الأدب أن الرمز هو : ” كل ما يحل محل شئ آخر في الدلالة عليه ؛ لا بطرق المطابقة التامة وإنما بالإيحاء أو بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها ” ..
( مجدي وهبة / معجم المصطلحات الأدبية/ بيروت /1974 م ص 552 ….)
ويقول ليزلي وايت : ” إن السلوك غير الرمزي عند الإنسان العاقل ؛ هو سلوك المرء من حيث هو حيوان … أمَّا السلوك الرمزي فهو سلوك ذلك الشخص نفسه من حيث هو إنسان … فالرمز هو الذي يحوّل الإنسان من مجرد حيوان فحسب إلي حيوان آدمي “.
( leslieA.white..op.cit.p15 ) د/ احمد ابو زيد / الواقع ولأسطورة / سلسلة الدراسات الشعبية / الهيئة العامة لقصور الثقافة ص 158 )
وهكذا تتداخل الفضاءات الخاصة بالكلمات مع فضاءات كينونة الذات ؛.. وتلك نقطة شديدة الأهمية في هذا السياق ؛ حيث أعني فيما أعنيه بها إمكانية تلاحم جسد الكتابة بكتابة الجسد إلي حد بعيد ..
( هوى الكف القوي بكل عنف على قفاه ؛ تطاير الشرر من عينيه سقط من يده مبسم الشيشة) ( قصة الصفعة ص 11 )
ولنا أن نراقب دوران هذه الجملة بقصة الصفعة :
( سريعاً ما رفع يده ؛ يضعها على قفاه ) .. ( ربما تحسس بعضهم أقفيتهم ) …( يده أصبحت بشكل تلقائي ترتفع كل حين وتصل إلى قفاه ) ….( وارتفعت يده اليمنى تتحسس قفاه ) …( كانت يده اليمنى تسرع إلى قفاه تتحسسه ) … ( لكن يده اليمنى لم تعد تكفي لأن تتحسس مكان الصفعه) … ( يرفع يده اليمنى ليتحسس مكان الصفعه) .. ( ما كان قبل الصفعة على قفا فتوتهم ) … ( تتبادل يداه اليمنى واليسرى تتحسسان قفاه ) ..
وهكذا تبدأ قصة ( الياسمين ) :
( ها هو يلملم بقاياه المتهالكة ؛ يتكور حول نفسه ؛ يلقي برأسه بين ركبتيه ؛و يضم بيديه ساقيه ؛ الجلباب الذي يرتديه لا يستر كل جسده ) .. ( قصة الياسمين ص 15 )
لعله غير خاف ما تطرحه قصة ( الصفعة ) وقصة ( الياسمين ) وقصة ( الطائر الذي كان ).. وأحسبها كلها قصص رمزية .. حيث يتعين على القارئ للدكتور جمال التلاوي أن يقع في إدراكه أنه يقرأ لأديب غاية في البساطة والمكر في آنٍ معاً ؛ وأن المستوى الرمزي أساس في
كتابته .. ومن هذا المنطلق فسوف يتعين على القارئ دائماً أن يجتهد في فك شفرات النص ولو من وجهة نظره الخاصة ليفوز بمتعة الكشف ؛ التي هي أيضاً من أهم أغراض المؤلف ؛ وعليه فكل ما سوف يقابلك عزيزي القارئ لهذه المجموعة ( الذي كان ) للأديب الدكتور / جمال التلاوي من أناس على شاكله خاصة مثل ( أبو كبه ) أو طيور أو حيوانات ( قطط أو فئران … الخ ) أو أشياء ذات دور مركزي بطولي في العمل ( كالبالون أو الحجر أو الشوك أو الورد أو أنهار .. الخ ) ما هي إلا رموز أو إشارات .. ومن الضروري أن نميز بين الرمز ( symbol ) والإشارة أو العلامة (sing)
خاصة أن كثير من الكتابات والمفاهيم تخلط بينهما وتستخدمهما كمترادفين … فالرمز يتميز علي العلامة بأنه يشير إلي مفاهيم وتصورات وأفكار مجردة ؛ بينما العلامة تشير أشياء ملموسة أو علي الأقل أمور أدني في درجة التجريد علي اعتبار أنها مجرد إشارة فحسب ؛ فهي يمكن فهمها بجلاء وسهولة عن طريق الحواس ؛ بعكس الرمز الذي لا يتم فهمه إلا حين ندرك الفكرة التي يرمز إليها ..من هنا فالمحك الأساسي في التمييز بين العلامة والرمز هو عملية إدراك ؛ فالعلامة يمكن إدراكها حسيا بسهولة ؛ والرمز يحتاج إلي عملية فكرية أكثر تعقيدا من الإدراك الحسي …
وعليه فإنه لا يكون خافياً ونحن نتعامل من خلال هذه الرؤية ما تطرحه معظم قصص المجموعة – حتى ولو بدا ذلك مسكوتا عنه – من علاقات كينونة تلاحم شرايين وأوردة الكتابة بقلب الهوية ..
وها هنا بالذات يصبح الشخص حديّا ً أو موجوداً علي الحدود الخاصة بكائن تحول إلي كتابة أو كتابة تحوّلت إلي كائن ؛ حيث يحدث الخلط بين فضاء الكائن وفضاء الكتابة ؛ أو حيث ال ( كما لو ) أو ال ( كأنه) الخاصة بالاستعارة الخيالية تعلو ؛ في حين تهبط هذه الاستعارة علي مذبح الواقع أيضا ً
وبعد …………..
بين يدي الآن مجموعة قصصية للقاص د / جمال التلاوي ؛ بعنوان (الذي كان ) صدرت عن القاصد للطباعة والنشر طبعة ثانية 2012 م ..وهي تأتي بعد المجموعات التي سبقتها لتؤكد إصرار صاحبها علي المضي قدما ً علي درب الإبداع القصصي ..
وقبل أن أتعرض لهذه المجموعة بالكتابة دعوني أعترف أنني لست ناقدا ً ؛ ربما أنا مجرد قارئ يصب من دورق ذاته بعض مخاضه الخاص فيما يدعي أنه يكتب عن الغير ؛ ربما يكون هذا الاعتراف فضيحة ..
لكنها فضيحة لذيذة علي كل حال …
يتأسس الجانب الذاتي في قصص د / جمال التلاوي على بنية احتفالية طقوسية تكشف عن أبعاد علاقات التوتر العنيفوالخلاق بين هوية الذات الفردية المختلفة عن مثيلاتها جوهريا ً باعتبار فنيتها أو إبداعيتها؛ والهوية الجماعية التي تنزع الى محو أوقمع كل اختلاف من هذا النوع كما لو كان خطراً يهدد وحدتها ومعاني وجودها:
(الطفل الذي لم يعد صغيراً يدرك أن حدود الألم لن تخرج من داخله ؛ كما أن خطواته مهما امتدت أحلامه قد لا تخرج عن الدائرة التي حددوها له .. ) ( من قصة الطفل الذي كان ص 107 )
( يشتد البرد فيضغط بجسده على جذع الشجرة ؛ يلتمس بعضاً من الدفء ؛ يخرج رأسه المتدلي من بين ركبتيه ويتلفت حوله ؛ ثمة شئ لا يوجد … على امتداد البصر كل شئ كما هو ؛ وليس كما هو ..)
( من قصة الياسمين ص 15 )
“يتسائل توماس مان: هل ان “نفس” الانسان محبوسة، فقط، ضمن حدوده الجسمانية الزائلة؟ اليس هناك الكثير من مقوماته الاساسية قادمة من العالم الخارجي قبل وبعد ولادته؟ لم يكن التمييز بين العقل بشكل عام وبين العقل الفردي، ليشغل الناس في الماضي، بنفس القوة التي يشغلنا بها اليوم…” ( ميلان كونديرا – خيانة الوصايا – ترجمة لؤي عبد الإله)
إنها – كما أري – كتابة استعادة الكينونة … ورغم أن الدلالة المأساوية تهيمن على القصص في مجملها إلاأن المبدع يحاول تقصي الأبعاد الايجابية في هذه الصيرورة :
( سيد ابو كبَّه – سيد العبيط .. كان في البدء لا يعيرهم اهتماماً ؛ لكن عندما تؤلمه ضرباتهم ؛ كان يهرول مبتعداً عنهم )( الشجرة تسقط عليه بعضا من ثمارها فيمد يده يأكل ؛ ما دام الثمر ؛ والثمر يساقط ما دامت الشجرة ؛ والشجرة تحنو عليه فيلتصق بها .. ) ( قصة الياسمين ص 20 )ولعل المرجع الأهم لكل دلالة ايجابية في القصص يكمن في قدرة الكتابةالإبداعية على تحويل الذاكرة والهوية إلى عناصر فعالةلإعادة بناء هوية الذات وفق شروط معرفية وجمالية تدفع بها نحو أفق إنساني أوسعوأبعد من كل الحدود والانتماءات الضيقة. ..
( حين علوت ؛ كان التصفيق يعلو ؛ وآهات الإعجاب تنطلق ؛ والأرض تصغر في عيني ؛ وحدثتني نفسي أن أبحث لي عن مكان في سماوات أخرى ؛ وعن أرضٍ غير الأرض ؛ وحين اقتربت من الشمس ؛ ذابت أجنحتي الشمعية ؛ وهويت ..)
( قصة حكاية الحصان الذي خسر السباق ص 30 )
إن البديهية الفريدة التي يفرزها صميم التجربة هي السخط .سخط الذات المحرومة أو المكرهة بشكل من الأشكال ؛ هذه البديهية تتعزز بما هي فيه من معاناة ؛ فالسخط كالتمرد ينشأ عادة من مشهد انعدام التماسك أمام وضع جائر أو مستغلق ؛ لكن إطاحة الساخط أو المتمرد في البرية بعد أن يلعق لجامه هو أساسا ً من أجل أن يهدأ : ( قررت أن أسبق كل خيول السباق وجعلت أعدو من ميدان لآخر ومن سبق لآخر وصاحبي يلبس التيجان الواحد تلو الآخر …. وحين هويت وسقط الفارس وانكسر ؛ تركته تحت شجرة ينتظر فرسا آخر يحمله عبر أحلامه إذ أنه بقى لا يزال يكابر ويحلم بأنه يسبق كل يوم سبقاً جديداً ؛ وأن العالم يصفق له ؛ وحين يفتح عينيه إذ يجد في أعلى الشجرة عصفوراً صغيراً يسقط على رأسه فضلاته .) ( نفس القصة ص 30 )
في مشهد مشابه مع بداية رواية ( البطء ) لميلان كونديرا يتساءل المؤلف :
” لم اختفت متعة البطء ؟ أين هم متسكعوا الزمن الغابر ؟ هؤلاء المتشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلي طاحونة أخري وينامون تحت أجمل نجمة ؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحدائق والغابات والطبيعة ؟
(البطء – رواية – ميلان كونديرا – ترجمة منيرة مصطفي – ص 8 )..
“حقيقة عارية في ثوب خيال أو خيال مسبوك في قالب حقيقة.. “
( حديث ابن هشام لمحمد المويلحي – (طبعة: دار الجنوب للنشر، تونس 1992 ص22)”.
ذلك أن شكل وبنية القصة القصيرة يدفعان الأديب أو يدعوانه علي الأقل بإلحاح إلي ضرورة توفير المتطلبات الجمالية بنفس قدر وكيفية متطلبات مشابهة الحقيقة وتحري الصدق ؛ بتقديم واقعي للأحداث والشخوص عن طريق تفاصيل كنائية أو رمزية :
( تعلو أصوات الدفوف ؛ يزداد الصخب .. يتجردون من ملابسهم ؛ يصبحون عرايا ؛ يبدأون تراتيل الرقص ؛ يرقصون بجنون وأصوات الطبول تعلو .. ومن بعد تعلو أصوات صرخات
فرحة ؛ وأصوات تصفيق ؛ الآن يكتمل الفرح إذ يحملون الطفل الجميل بملابسه البيضاء ..) ( من قصة قراءة في نص حجري ص 41 )
حيث الكتابة الأدبية عموما ً هي منتج متخيل ينطلق من أساس اجتماعي أو واقعي وهو يفرز تخيلا متولداً عن استيهامات بعض الشخوص ويساهم بالضرورة في خلق مسارات حكاية مخالفة لصيرورة الواقع . وحيث التخيلي لا يتم في فضاء القص وحده بل يرتكز علي صميم العلاقات الاجتماعية ؛ فمرجعيات ألحكي الشعورية واللاشعورية تخضع في تكوينها واشتغالها لأطر الإدراك ولأنماط المتخيل بمختلف تشعباته .
فمن خلال قراءة عامة لقصة مثل (حكاية الحصان الذي خسر السباق ) سنجد أنها تتكئ علي ثلاث علاقات حسية أساسية تربط بينها مجموعة من الهواجس / الخواطر :
الأولي هي علاقة الحصان بالسباق .. والثانية هي علاقة الحصان بالفارس .. والثالثة هي نهاية الحصان .
المسألة عندي ليست هي ” ما طار طير وارتفع .. إلاَّ كما طار وقع ” .. لكن قراءة أكثر استغواراً ؛ واستجابة أو سعياً وراء الدلالة من شأنها أن تكشف عن الدور الحاسم الذي يمكن أن يلعبهالوعي بالجسد الفردي الخاص في إعادة تشكيل خطاب الهوية باتجاه ما يثري الخطابوموضوعه ويعزز بالتالي من قدرات الكائن الإنساني على التواصل الحر والخلاق مع الآخرأياً وأنى كان. فالفاعل الحقيقي والمفجر الخفي لهوس هذه الكتابة الإبداعية هو الجسد في حقيقة الأمر ؛ لذا نجدنا في حاجة لمناقشة مقولتي الجسد والهوية وما بينهما من تعالقات نادرا ما يلتفت إليها الباحثون..
هذا الجسد الذي نلمحه حتى في قصة (حكاية القطة التي أكلت أولادها والفأر الذي يلعب بذيله ) كامنا خلف عدم نسيان القط صاحب العيون الخضراء رغم اختفاءه من المشهد حيث تتمحور القصة في الحقيقة حول :
(فهم قد تكاثروا حولي ولم يعد أحد منهم يعبأ بي ؛ وحينما أنام تأتيني الرؤية المفزعة ؛ فكل قط يبحث عن قطه له وكل قطة تجري وراء قط واستيقظ لأكتشف أن كل شئ في لحظة سينتهي ؛ وأصبح وحيدة يهدني العجز والجوع والوحدة)
( قصة حكاية القطة التي أكلت أولادها والفأر الذي يلعب بذيله .. ص 35 )
الحكاية ليست فحسب ( إن غاب القط العب يا فار ) .. إن أكل القطة لأولادها كما تكشف عنه القصة ليس هو خوف القطة على أولادها كما هو شائع فحسب ؛ وإلا فلن يكون هناك فن ؛
ولكن ككناية عن علاقة مبتورة بين القطة والفئران ؛ أو لذة غير مكتملة جسديا تعوضها لذة الأكل .. ولو سألنا أنفسنا عن كيفية ولادة الفن والأدب في داخلنا وعن الشيء الذي نسعى به لإعادة خلقهما فإننا بصدق سوف نميل للإجابة غريزيا ، فحين تصل الفنون والآداب إلى حواسنا فأنها تقوم بإشباعها الواحدة تلو الأخرى ..
وتتفتق لذة القراءة أحيانا ً من تداخل سنن متنابذة تحمل رسالات ساخرة و فضائحية كما نرى في قصة ( قراءة في نص حجري .. ص 41 ) حيث تبدأ القصة بطقوس قتل طفل فرعوني أمام فتاة – لعلها أخته – بقذفه بالحجارة حتى تتفجر دمائه الخضراء فائرة ساخنة ويتقاتلون ليحصلوا على قطرة دم يمتصوها بتلذذ ؛ يشربون دمه ويقسمون جسده بينهم ؛ وثمة تعليق يضعه الكاتب بين قوسين كبيرين كأنه مقبوس من كتاب قديم ] ماذا نملك أن نفعل ؟ نحن لا نستطيع أن نأكل القطط أو الكلاب ؛ ولكنا نستطيع أن نأكل لحم أخينا ميتا[ .. ص42
ثم بع أن تنتهي هذه العملية المفزعة نجد تعليقاً آخر بين قوسين كبيرين أيضاً : ] نحن إذ تشربنا دمك ؛ وسريت في شرايين حيواتنا أصبحناك وأصبحتنا ؛ نحملك ؛ تحملنا ؛ نحمل الأحجار التي رميناك بها ونبحث الآن عن الوجهة الصحيحة لها ؛إذ استيقظنا لحظة أن أدخلناك وأدخلتنا [ .. ص 42
لعلها ترجمة لمقبوسات فرعونية حقيقية فالقصة تحمل عنوان ( قراءة في نص حجري ) .. لا بأس .. ثم نجد طقوساً لعرس النيل على نفس الفتاة التي شهدت هذا المشهد والتي بعد تجهيزها للعرس وعند آخر خطوة لها لترمي نفسها في النيل تتذكر هذا المشهد فتعود أدراجها رافضةً هذا الزواج ؛ وبشكل من الأشكال نجد تناصاً مع القصة القرآنية لسيدنا موسي تحت عنوان جانبي هو : حاشية .. في ختام القصة .. وتنتهي القصة المُحملة بدلالات تتشظي في اتجاهات شتى ؛ وتنفتح على فضاءات بلا حدود ؛ وربما يكفيك منها لذة القراءة المتفتقة من تداخل هذه السنن المتنابذة التي تحمل رسالات ساخرة وفضائحية .. فالنص الجيد يهب الفرصة للمتلقي للحدس والتفطن .. حيث يصاغ وفقاً لمبدأ التلويح الذي يصون درجة من الخفاء ؛ بحيث يحرّض في المتلقي شهوة اختراق المستور ؛ والإلتقاء بالأسرار .. ثمة استدراج للعقل يسوقه الكاتب بلطف ؛ ملوّحاً بالمكافاءة التي يستحقها المتلقي عن جدارة نتيجة لما بذله من جهد ؛ وهو ما يعني أن النص الجيد إنّما يعلّم بالإمتاع ؛ حيث يري في الصلة بين النص والمتلقي نوعاً من الوعد بنشوة وانتعاش ..
يقول رولان بارت : ” حينذاك يستعر المكتوب شهوة ويظل كذلك في جسد كل قارئ ؛ حينذاك يضطرم الجسد بلذة لقاء النص أمدا ً لا ينتهي دوامه ؛ ويلتهب بلذة وصاله زمنا ً لا ينتهي استمراره ” .. ( لذة النص – ترجمة منذر عياشي ص 10 )
وفي محاولة لإعادة بناء الهوية و تقصي بعداً إيجابياً يجنح الكاتب د / جمال التلاوي جنوحا لا يخلو من مغالاة في تحقيق التفاؤل حين يعمد بعدا لنهاية المأساوية: ( عدنا إلى النهر وقررنا أن نملأه بدمائنا ؛ حملنا لعبنا الصغيرة بيوتنا التي تهدمت وأصبحت قطعاً من حجارة ..) بعد هذه المأساوية ينهي القصة بقوله : ( حملناها وبدأنا الخطوة الأولى ) ..ص 47
وإذن مازال وسيظل أديبنا جمال التلاوي في محاولة دائمة لإعادة بناء الهوية من خلال تقصي الأبعاد الإيجابية في أحلك وأصعب الظروف .. نعم .. وفتحت الرمزية المجال علي مصراعيه للاستفادة من الخرافات والأساطير كرموز ومثيلات رمزية للقوي الطبيعية ؛ وكثرت الإسقاطات وسادت التفسيرات الإسقاطية منذ كتابات نهاية القرن الثامن عشر وحتى الآن .
ومثل ما رأينا كاتبنا يتناص مع القصة القرآنية لسيدنا موسى في جانبٍ من قصة ( قراءة في نص حجري ) .. فسوف نجده يتكئ بشكل تام على التناص مع القصة القرآنية لسيدنا يوسف في إنتاجه لقصة ( إذا زلزلت الأرض ) والعنوان كما هو واضح يتناص مع لغة القرآن بشكل صريح ؛ وهكذا يستدعي الكاتب حقبة من التراث ويجعلها فاعلة في الحاضر ؛ غير بعض الاختلافات التي تجعل من الحدث أشد قسوة ؛ فبئر كاتبنا صدئة وليس بها نقطة ماء وهو / أقول هو يوسف القصة أو بطلها – المعادل للذات الساردة – في قاعها تساقط عليه الحجارة والغرباء ينتشرون حولها : ( يحلمون بالموت القادم / للطفل الساقط / في البئر الصدئة .. ص 50 ) .. – هل ينبغي أن أستغل هذه الجملة البارقة شعرياً لأتحدث عن شاعرية المؤلف الأديب ( القاص ) د / جمال التلاوي .. ربَّما نعود إلى ذلك في موضعٍ آخر ؛ حيث ألأمثلة كثير ة –
ثم أنه يعرف ما حلَّ بأبيه – المعرفة التراثية المسقطة على الواقع – لكن أكثر الاختلافات بين الواقع والاستدعاء هو أن مملكة الواقع ( امتلأت بالآبار ؛ وحول فوهات الآبار في كل ناحية مقصلة .. ص 51) … الخ ..
نحن دائما أمام شخصية مركبة ة تقدمها لعبة الكتابةكقرين لشخصية الكاتب أو ربما كنقيض لها ؛ وفي كل الأحوال فان العلاقات الغنية والمتوترة بين هاتينالشخصيتين تخترق القصص من البداية إلى النهاية وهما تحضران معاً في كل اللحظاتالحاسمة من القصص وتحولاتها.
وتتجلى المحاولة الدائمة لإعادة بناء الهوية من خلال تقصي الأبعاد الإيجابية في أحلك وأصعب الظروف مع آخر جملة : ( إذ أصنع من دمي الأخضر قميصاً ألقيه يوماً على ناظريك ؛ فتعود بصيراً تبارك أحجارنا .. ص 52 )
( وحين يصير العمر أغنيةً رمادية
حزينة الأنغام قدسيَّة
أرحل فوق جبال التيه
ألملم نفسي المهزومة
ويبدأ الرحيل
ودوامات الخوف الأزلية .) ( قصة : أغنية رمادية .. ص 53 )
كأني أمام نص شعري مترجم ؛ أو قصيدة نثر .. لم تعد الحدود الفواصل للأجناس الأدبية ذات أهمية قصوى بعد أن تداخلت فنون الكتابة وتواشجت فيما بينها ؛ لكن الجدير بالذكر هو أن نرصد لكاتبنا شاعرية طرحه القصصي على مستويات كثيرة ..
لكاتبنا د. جمال التلاوي محاولته الجادة في تأسيس بناء قصصي يخصه ويخصصه ؛ حيث يلجاء إلى عملية تقسيم ما للقصة الواحد تحت عناوين فرعية كعتبات ومن أمثلة ذلك ما رأيناه في قصة ( حكاية القطة التي أكلت أولادها ؛ والفأر الذي يلعب بذيله ) حيث ثمة ثلاثة عناوين جانية هي : ماحدث و وماذا بعد وتعليق على ماحدث .. وقصة ( قراءة في نص حجري ) سنجد : مفتتح و حاشية .. كما تبدأ قصة أغنية رمادية ) بهذا المقطع الشعري وتنتهي بعنوان جانبي هو : تعقيب أخير .. ثم هناك تقنية شديدة الخصوصية بقصة ( نهاية .. ص 67 ) ينتهي كل حدث بالقصة بسؤال مؤداه : هل بالفعل حدث ما حدث ؟ .. وتنتهي القصة بنفس السؤال .. وهناك : تعليق أخير بقصة ( حين تدلى الرأس ) .. ويذهب حدسنا إلى أن ملكة النقد التيس وهبها الله لهذا الكاتب تتجلى وتتباهي وتزهو بسيطرتها في كثير من لحظات إبداع الكاتب لقصصه وهو التي خلف هذه التقسيمات التي تبدو ذهنية أكثر ..
على كل حال ؛ أعتقد أن اشتغالي على ما اشتغلت عليه من قصص المجموعة قد يغنى عن اشتغالي بما لم اشتغل عليه ؛ فبين ( الطائر الذي كان ) و ( الطفل الذي كان ) تتبلور العلاقة بين الكتابة والهوية.. بين الرمز وما يرمز إليه ؛ بين الأدب والواقع .
ولكن ثمة كلمة أخيرة حيث جعلت عنوان هذه القراءة ( كتابة الهوية )..أما «الهوية» فكثيرا ما طرحت وتطرح للبحثوالجدل في مختلف المقامات والسياقات حتى أنها أصبحت تيمة مركزية في خطابنا الثقافيبمختلف مكوناته وإشكاله وتوجهاته النظرية والعملية. ومع أهمية الطرح المعرفي لقضيةكهذه إلا انه غالباً ما يخضع لدواع وغايات إيديولوجية قد تنتج من الإشكاليات أكثرمما تنتجه من المعلومات والأفكار والأطروحات التي تعمق الوعي وتوسع مجالات التفكيروالحوار وهي الوظائف الأساسية المفترضة لأي خطاب
معرفي جاد في هذا المقاموغيره…ولعل أحد الأسباب العامة والعميقة وراء هذا التوجه السائد انتلك القضية كانت عادة ما تطرح في سياق علاقات التقابل الضدي مع الآخر ومع وجود بعض الاستثناءات التي تحد منوجاهة التعميم إلا أن هذا الوضع يبرر لنا ويقتضي من غيرنا مقاربة موضوعالهوية من منظورات مختلفة ومتجددة باستمرار.
فهوية الكائن الإنساني الفرد ستظلمعلقة في فراغ التوهم مثقلة ومهددة بمختلف أشكال الانحباس ما لم تتصل اتصالاًقوياً وحميماً بجسده الذي هو الدليل الأكيد، وربما الوحيد، على وجوده في الزمنوالمكان. والهوية الجماعية التي تبنى على تجاهل الجسد الفردي أو محاصرته بأنواعالكبت والقمع والحرمان لا يمكن أن تكون هوية صحيحة وصحية ومنتجة وخلاقة لافي مستوى حياة الفرد ولا في مستوى حياة المجتمع أو الأمة.
وإذا كان هذا الخطاب القصصي للأديب / د جمال التلاوي .. هو سرد متخيل من لقطات عابرة لبقايا الواقع تتصل بالمعيش واليومي والمنفلت والهامشي، مثلما تتصل باعتبار الغريب والعجيب جزءا لا يتجزأ من الواقع ذاته.. فإن قصصه هي متون سردية يلعب الفكر فيها دور البطل والضحية حيث ينطرح كمجرد خلية منسية رغم تميز شخصية صاحبه بوعيها وإبداعها ؛ فهو أديب ؛ وعالم ؛ وأستاذ دكتور يعيش ويكتب كما يرى ويريد …. ويستطيع.
ولعل أول جملة على ظهر غلاف المجموعة ؛ وكنت أود لو اكتفى الدكتور التلاوي بها :
( حين تدلى الرأس فوق الجسد – الذي كان منتفضاً – كان تاريخاً جديداً يكتب ؛ وتاريخاً ينتهي )
لتطرح كل ما ذهبنا إليه مُقطراً ..
اعتراف دائماً ؛ أنا لست بناقد؛ ربما أحاول الإمساك بالأصل ؛ ولكن أي أصل ؟! الذات المبدعة فقط هي الأصل .. أما النصوص التي بين أيدينا فلا تحمل ضمان تمامها ولا وثوقية كمالها .. ثمة شئ غائب دائما .. شئ متواري خفي ؛ شئ يشترط التغير والانحراف والقدرة علي التجاوز .. وعلي كل منا أن يجتهد للفوز بلذة اكتشافه .
آه .. تلك اللذة الغير معقولة ؛ أو الغير قابلة للعقلنة .. دعوني أعترف مجددا ً إنه عشق الكتابة ؛ فإذا أعلنت عشقي للمكتوب ؛ فلذتي تقوم علي وصال مع ما أكتب ؛ مع الكتابة ؛ إنني أضع نفسي في حروفي ؛ وإن الحروف لتغادرني نَفْساً/ نصا ً ..
لتقرؤونها نصا / نَفْساً .
مع خالص ودي واحترامي وتقديري
محمود عبد الصمد زكريا

اترك تعليقاً