بعد دوواين “الخيط افي يدي” و “تقطيبه المحارب” و “خازنة الماء” و “فراشة في الدخان” و “تمثال رملي” و “الموتى يقفزون من النافذة ” خرج لنا الشاعر الكبير فتحي عبد السميع بديوانه السابع الرائع ” أحد عشر ظلا لحجر ” لم ينحرف فيه عبد السميع عن مشروعه العميق الذي ظل يشتغل عليه منذ سنوات طويلة دون ملل أو كلل هو مشروع له سلاح ذو حدين و هذان الحدان يتجهان مباشرة نحو الإنسانية في طابعها الأول النقي الحد الاول : متمثلا في كشف مجتمعه بهمومه و مشكلاته و أيضا جمالياته و كيفية إعادة هذا المجتمع لطريقه الذي مضى فقد كان مضربا للأمثال كما روى عنه الشعراء الأوائل منذ فجر الضمير الإنساني الذي ولد من رحم التاريخ العتيق مصريا بشهادة جيمس هنري بريستد في كتابه العبقري ” فجر الضمير” الحد الثاني يتمثل في الشعر نفسه فكما يوظفه لنفض الغبار عن الجنوب و محاولة إقامة جسر تواصل متفرع ليس له حدود يربطه بالمجتمع المصري و العربي فهو بالنسبة له العصا السحرية الكاشفة عن الذات و المكان , الشعر علي حد قوله يمثل بالنسبة له ( جسرا سحريا يخرج به دائما من الفردي و الجماعي إلى البراح الإنساني الواسع ) غريب حقا و مدهش عبد السميع في جل أعماله فهو لا يتوقف عند شعرية ما يكتبه إنما يلقي بكلماته في تربتنا كما يلقي المزارع حبوب التقاوي فيتركها لنا نراها تنمو و تنبت أجنحة تحلق بنا بضوئها صانعة ظلا موجها علي تفاصيله الصغيرة , فديوان أحد عشر ظلا لحجر نراه موزعا بين أقسام ثلاثة عبارة عن قصيدة تشكل مفتتحا ( قاطع الطريق الذي صار شاعرا ) ثم إحدى عشرة قصيدة في المتن تحت عنوان رئيسي ( أحد عشر ظلا لحجر يقوم من النوم ) لكل قصيدة عنوانها الفرعي ثم مختتما بعنوان رجفة الوداع به قصيدة عنوانها ( ظل مفتوح علي الباب )ما يميز هذا الديوان تحديدا لعبد السميع حركية المفردة و الجملة و القصيدة داخل فضاءات ضربت لنا رحم الحياة ليخرج لنا المهمش و التافه و غير المهم مزجت لنا الأزمنة بحضورها و غيابها غيرت رؤية عبد السميع الفلسفية نظرتنا للتفاصيل في حياتنا اليومية , فمنذ قصيدة المفتتح يدهشنا بغرائبية الحدث و نقيضه , يقول :
(أَمشي كأيِّ لِصٍّ تقليدي
يَنشلُ جَدْيَا مِن حظيرةٍ
أو دَرَّاجةً مِن شارع.
حَسَّاسٌ ونَبِيه .
ثم يقول :
تُرْعِبُني العَتْمَةُ
حينَ تَذوبُ في العِظامِ
ولا يَعرفُها أحد.
تُرعِبُني نَجَاسَةُ المَوْتَى
وهِيَ تَدْفَعُ النَّاسَ مِثلَ القرابين
في موكِبٍ لا نَرَاه.
أَلْتَفُّ بعتمةٍ صغيرةٍ
فَتَلْتَفُّ الدنيا كلُّهَا بالنور).
يمزج الشاعر برؤيته المتافيزيقية بين اللص المطارد الذي رأي أن قطع الطريق أو السرقة بالإكراه فجور و أدنى إنسانية من نشال يصفع علي قفاه هو في الأصل حساس و نبيه لأنه شاعر بفطرته رغما عن إرادة عائلته , لغة بليغة اتحدت مع روح الشاعر التي تخلق تحديا من جمال منصهر في براح من الدهشة يؤكد لنا ان منظور الشاعر الحقيقي الذي اتخذ من الشعر منطلقا لروح لا تقبل العتمة في معناها الصريح برغم أنه يجد نفسه فيها كما لا يقبل نجاسة الموتى فيصير زبالا طاهرا يلم النجاسة في جرابه و شاعرا يجعل من عتمته نورا تلتف الدنيا كلها به .
ما الحجر؟ وما الظل؟ ربما كان العدد إشارة لمجموع قصائد المتن ولكن كيف يقترن الظل المعبر عن الحركة و الانتقال بالحجر الثابت الذي يعطي دلالات متعددة لقصدية الشاعر التي لا نسعي خلفها بقدر ما نسعي لاهثين خلف الجمال الذي اختزله الشاعر في أنسنة كل ما لا نتخيله هاربا بمخيلته من الوقوع في الفخ الأيدولوجي تاركا لنا مساحات و فجوات عبارة عن فراغ حسي نرخي فيه ما اعدنا انتاجه من دلالات قصيدته التي يحلم من خلالها , لا يعيد انتاج أسئلة مطالبا قارئه محاولة اكتشاف إجابات ذهنية لها هو فقط يحلم ربما فارق حلما حجره الثابت ليقترن بمحاولة قارئه تحقيق ذلك الحلم المراود قصد التأويل , يتحدي عبد السميع اللغة بجمودها فيطوف بلغته حول القصيدة بانزيحات مدهشة لا تجد منطقا عقلانيا لعودة الضمائر فقط انت تحلق إنسانيا مع شاعر لا تقوضه القصيدة بأي مرجعية ثابتة :
(حوضٌ زٌجَاجي
رقيقٌ كَطَرْحَةٍ
وعنيفٌ كَبَلْطَةٍ
تَقتَرِبُ السَّمَكَةُ مِن عِظامي وتَعود
أَصدمُها في بوزِهَا فَتَرْقُص
تُزَغْرِدُ حتَّى وهِيَ مُحْبَطة).
تكتشف بعد أن تقرأ قصيدة أو جزءا من قصيدة أنك مصدوم بكم الدلالات التي تخلفها لك قراءتك للمشهد نحن لسنا أمام عمل سردي نجد فيه راو و هل الراوي هنا بمعزل عن الكاتب فنخرج الكاتب أو المؤلف من العمل أو نميته كما فعل بارت أو أن الشاعر و الراوي و الحوض الزجاجي كتلة واحدة تماهت و انصهرت لتخلق لنا عالما جماليا لا يرضى إلا بالضوء في نهاية المطاف , فنحن أمام جمل شعرية مدهشة يحول فيها الشاعر راويه و ربما نفسه لحوض زجاجي يقيم حالة مع سمكة فيعيدنا مرة اخري لفكرة الرضا التي يجد من خلالها الضوء منطلقا لحريته متمثلا في زغردة السمكة رغم فشلها في محاولة الفرار ,هذه السمكة التي أراد عبد السميع جعلها اول أطوار خلق الحجر الذي ربما يكون هذا الحجر هو رأس الشاعر أو هو الشاعر نفسه و الحوض بمثابة الرحم الذي يريد الفرار منه و اعتراض الحوض كان دليلا علي تقبل الانسانية للبقاء في أرحامها حينما تصطدم بواقع الحياة التي مرة أخري نجد الشاعر يهرب منها الي الحلم :
( في لحظاتٍ كثيرةٍ
يَحِنُّ المَرْءُ إلى بَطْنِ أُمِّهِ
إلى رِحْلَتِهِ الأولَى في الماءِ.
في لحظاتٍ نادرةٍ
يعودُ كلُّ إنسانٍ إلى أصلِه
يَصيرُ سَمَكةً ويَرْتَعِشُ .
رِعْشَةً صغيرةً ويَشْبَعُ أَيَّاما وأسابيعَ
رقيقةً وتكْسِرُ نِقْمَتَنا على الدنيا.
كيْفَ سَنَحْتَمِلُ الجَنَّةَ
إنْ لم نُبْعَثْ أَسْمَاكا؟)
متعددة الأم ليست أما واحدة في قصائد الديوان فهي الأم التي احتضنت بيولوجيا لدرجة أن صار الجنين متوحدا مع دلالة السمكة التي تخشي أن تبعث خلقا آخر غير كينونتها التي تطبعت بها و رضيت بها و لا تقبل سواها بديلا حتي لو كانت الجنة.
(يُعَاني المِسكينُ
وهوَ يَفِرُّ مِن أُمِّهِ
قَبْلَ أنْ يُقَبِّلَ يَدَهَا.
تُعَانِي المِسكينةُ
حينَ تَجثو عندَ البابِ
تَجْمَعُ قِشْرَا لِتَلْضُمَه في طَرْحَتِهَا
بَيْنَمَا تُمْسِكُ خَيْطَ دَمٍ مَخلوطا بِلُعَاب
يَرْمَحُ خَلْفَ شَقِيقي.)
الأم الموسوعية التي كتبت عنها كل المجلدات الإنسانية بفطرتها و معاناتها و ألامها , هي الأم التي تحارب و تجاهد من أجل ألا يهدم معمار هكذا ….الشاعر حافظ علي عمارته الشعرية من خلال الأم المشفرة المحجوبة الضامة مجموعة القيم و المستعدة لتسليمها للشاعر لينثرها في رحابة الكون قيم دالة علي التسامح و المساواة قيم تهز العنصرية و التمييز و القسوة من جذورها ,يهيم شاعرنا فيؤنسن البراية و القلم و الشبشب و فلاية الشعر و كل مهمش و قليل الفائدة أصبح مسرحا للسعادة في مجموعة ظلال لحجر واحد أو إن شئت قل لرأس واحد أو شاعر واحد و لماذا لا يكون الحجر هو الشاعر نفسه أو رأسه :
(وها هي الفَلَّايةُ
تُصَابُ بعدوَى شَعرِها الناعمِ
وتَصيرُ ماءا.
يَبدأُ العيدُ
حينَ تَلينُ مشيةُ الفَلايةِ
وتدخلُ الشمسَ بين أسنانِها الرقيقةِ
لتَشربَها الجذورُ.
ثَمًةّ فرحةُ تَسري في البيتِ
وهي تَجمعُ الشَّعرَ المتساقِطَ
كمَا تَجمعُ البيضَ في طَرحتِها
أو تَحمِلُ الكتاكيتَ في مهْدٍ مِن الجريدِ )
يسعي عبد السميع في ديوانه للقبض علي الحرية في أوسع مجازاتها رحلة للتحرر أو قل رحلة لخلق عالم من الجمال من خلال التحولات التي يضفيها علي قصيدته ,ربما كانت العتمة ؟ عتمة مرعبة و قبور للموتى نجاسة هنا وهنا ك , صبر من الشاعر للبحث عن النور الذي يضيء من طبيعة المحبة و التسامح و رحابة الروح قبول الأخر دون تمييز. ليست فقط القبيلة التي تشغل بال عبد السميع ليست قبيلته فقط ,إنه الجهاد الروحي لمحاولات لاكتشاف الذات المضيئة ليرتقي بالأوضاع الاجتماعية و النفسية لمن حوله , إنها رحلة إلي الذات منذ بداية تطور نموها و حتي خروجها للحياة لا لتكون لصا أو قاطع طرق بل شاعر يمتلك هندسة الشعر لبناء معماره المتكامل فهو يعرف اين يضع كلماته و كيف تصيب قارئها بالدهشة المعتادة .