رواية-درب-الاعمى

رواية “درب الأعمى” للكاتب محمد عبد الحكم حسن

من روايتى (درب الأعمى )
………..
أنا وصديقي والنمر
…….
كيف الحال يا زول ؟.
“عينان تنظران من وجه متحفز، وولد يلتصق بالجدار كخفاش يوشك أن ينطلق في وجه صديقي الضاحك “.
قلت لصديقي: لا تتحدث معهم فهم لا يحبون المزاح .
حين يلتقون على السلم صعوداً وهبوطاً يحملون الطوب والرمل، لا نلاحظ حديثاً يدور بينهم مهما تنصتنا وتتبعنا تحركات الشفاه، يمرقون من جوارنا فتلفحنا أنفاسهم وأجسامهم برائحة كجلود النمور.
صديقي يحب الضحك، وأنا أخشى الفضائح في مكان غريب كهذا، معذور، هو لم يرهم من قبل حين تشاجروا مع النحاتين، حيث كانوا ينبتون من الأرض فجأة كهياكل عظمية، ينفضون التراب والجير عن وجوههم العرقى، يتصايحون ويتبادلون إشارات وكلاماً مبهما، أجساد تتلوى كالكرابيج، عصيّ وبلط وكواريك تتلاقى وترتفع وتهوي بقسوة، أنيابهم تنغرس في اللحم وتدنو من الرقاب، يتقافزون ويضربون ويرقصون فوق من يسقط، يتقوسون ككائنات خرافية ويلحسون خيوط الدم ويدكون بسيقانهم الرفيعة فوق الأجساد المترنحة، يوم مشهود، عندما دخلوا أكشاكهم الخشبية في الظهيرة، كان النحات ما زال يفتّش في حاجياتهم، يفك أربطة الأكياس والجرار والمخالي وينثر على الأرض أحجبة وخلاخيل وورقاً أصفر، لم يجد نقوداً، إنما وجد ثياباً قديمة وبخوراً وشيئاً من تمر يابس وحلف برٍّ وعرائس طمي، هم منذ زمن هنا يعملون ليل نهار، أكلهم الزيت والباذنجان المسلوق وطبيخهم قليل، أين يخبئون النقود إذن؟ النحات يبحث مجنوناً بين ملابسهم المعلّقة وفرشهم الخشنة، وهم يندفعون إلى أكشاكهم وقت الظهيرة في صمت أبديٍّ وتعب ولهاث، لماذا تعالت صرخاتهم طويلة وممطوطة، نداء يخترق نسيج الخلاء وهدير الأوناش، وهم يحيطون بالنحات ويخمشون أظافرهم في رقيق جلده، فيعلو صراخه واستغاثته، ينادي أسماء كثيرة، الولد لم يكن وحده، كان رفاقه النحاتون متقنفذين وراء البراميل، ينتظرون خروجه إليهم بتحويشة هؤلاء الذين جاءوا من جنوب السودان وقبائل أفريقيا، يعيشون في تجمعات قليلة وأكشاك متجاورة، ولكن الولد ما خرج، فاقتحم النحاتون الأكشاك الخشبية من كل جهة، يهيلون ويضربون بألواح الخشب، في البداية كانت الغلبة للتحاتين، لقد كادوا أن يكسِّروا سيقانهم الرفيعة وهم يطوحونهم في وسع الخلاء، داسوا عليهم ورفعوا الكواريك علامة النصر، ولكن هذا الولد الملتصق الآن كخفاش بالسلم تقافز بين أكوام الرمل والخشب وغاب بين جنبات العمائر، كان يصرخ كنسناس، ربما طار من نقطة إلى نقطة وهو ينكفئ ويعتدل ويرمح، كانوا يقفون كعروق خشبية هكذا دون جلوس أو انحناء، يبزغون كولّيد النخيل فجأة من باطن الأرض والعمارات خفافاً وسراعا، يلتقطون ما وجدوا في طريقهم من خشب وأسياخ حديدية، عيونهم تتلاقى وهم يدورون ويرقصون في حلقة وسط اندهاش الواقفين، كانوا يميلون ويعتدلون وينكشون شعرهم المنكوش، ينادون أسماءً بعيدة وغريبة، هم الذين لا تلتقي جماعاتهم في عمل واحد أو مكان واحد، حتى في أكلهم ومبيتهم وكلامهم، هم يتلاصقون الآن في حلقة متشابكة، وهذا الولد بينهم يمسح صدورهم بزيت له رائحة نفّاذة كرائحة بيت النمور في حديقة حيوان الجيزة، فيهدرون ويزأرون ويطوحون أيديهم في الهواء، ويلتقطون أشياء لا نراها، يدكون الأرض ويصفقون ويدورون، والناس يتفرجون، والنحاتون الواقفون على مواضع الأجسام التي انتصبت ورافعوا العصيّ أسلحة النصر .. إصفرت وجوههم وانفرجت شفاهم عن ضحكات هستيرية وغاصت أجسامهم في أنهار من العرق، وألقوا ما بأيديهم فجأة، هكذا كأنهم أمام آمر قويٍ وعيون خفية ونمور تتلوى وتتعارك وتشحذ أنيابها على ستارة الخلاء، كان هذا الولد ما زال يمسح الصدور ويتلو التعاويذ، وهم يقتربون في حذر التماسيح، وفجأة انقضوا يغرسون الأسياخ والبلط والأسنان في كل من يقابلونه، صياح وتأوهات ودشدشة عظام، والشمس واقفة تصب الصهد على الرؤوس ، ومساكن شيراتون تحت الإنشاء غارقة في الهدير ورائحة البويات، أقدام تتزاحم وسيارات تمرق في طريق المطار، وصوت الأوناش يعلو في سماء المكان، لماذا كانوا يلعقون الدماء ويتحسسون الأرداف والصدور والأكتاف، ويغرسون أنيابهم على مهل فيئز الأنين الخدر وتتراخى الرقاب المستسلمة، باتوا كنمور حين تقوّست ظهورهم وهم يقلبون الأجساد، لماذا سكتوا فجأة وهم يفتحون أفواههم .. كلٌ في رقبة، وراحت عيونهم تطلق وهجاً مخيفاً وتحدّق بلا رحمة، شعورهم تنتصب ومؤخراتهم تهتز كذيول، تُرى ماذا يقولون وقد أخذوا وضع استعداد حيث تلاقت عيونهم والإشارات، والولد ما زال يتلو التعاويذ، يستحيل حمامة وراقص تنورة ومحارباً قديماً جاء من الأزمنة المنسية، عيونهم تنبلج وإصبعه يشير، أنيابهم توشك أن تتلاقى في الرقاب الرخوة، لماذا هذا الولد كانوا ينتظرون منه إشارة، حين لعق إصبعه وطوَّح جسده في الهواء، دار ولف ودك الأرض وصفق، وأومأ إليهم وهو يجز الهواء في غيظ وأنين مكتوم، الأفواه توشك أن تنطبق على الرقاب، وسارينة سيارة الشرطة تشق الزحام، جنود الأمن وطلقات تنبدر في الهواء، وكعوب البنادق الميري تدك الرؤوس الصُلبة.
حين انقلبوا على ظهورهم كانت وجوههم مخيفة، ودماؤهم تقطر كالبازلت على الجباه، كانت ملامحهم تشكل مزيجاً من الحسرة والغضب والدهشة، أفواه ككهوف وعيون من جمر وأنفاس تزفر الصهد وضلوع بارزة، باتوا كتماسيح ممدة وأسنانهم البيضاء ما زالت تجز في غيبوبة، ووالنحاتون غرقوا في برك من ماء آسن ودم، صناديق سيارات الشرطة محكمة الغلق، وعيونهم الحمراء تنظر من خلف النوافذ الحديدية، السيارات تمضي بعيداً، ونحن من وراء الحواجز نعيد ترتيب دقات قلوبنا الخائفة .
هذا الولد كان ما يزال هنا، لماذا لم يلمحه جنود الأمن وهم يدحرجون كل شيء أمامهم، لقد كان واقفاً هنا بالضبط فوق كومة الرمل هذه، يغرس مخالبه في شفيف الضوء ويحادث أشباحاً لا وجود لها، كيف اختفى فجأة، ها هو يظهر منحنياً كجَدْي صغير، يلملم الأشياء ويعيد ترتيبها ومسمرة جوانب الحوائط الخشبية، ويحكم إغلاق الباب الهش في وجوهنا ويطلق البخور ويجلس في انتظار عودتهم .
كان صديقي الذي جاء من البلدة منذ أيام ما زال فرحاً بصحته التي لم تتبدد بعد، يريد أن يهشم ثقل الوقت بالضحكات، ولم تكن هناك فرصة لأحكي له كل هذا. متى؟ وأين؟ وكيف؟ .. ومن منا يستطيع أن يقاوم جمل النعاس الثقيل وهو يبرك على الصدر، ربما نمنا وأكواب الشاي في أيدينا، وأفواهنا مفتوحة على بقايا حكاية ومشروع بسمة، من منا يحكي أو يتذكر والجسد المتعب تدشدشه آلاف المطارق، الليل الطويل قصير كلحظة، وأجسادنا المنهكة توقظها أقدام المقاولين وأحذيتهم، علام نصبح؟ وهج نار الخشب وأرغفة يابسة، بقايا طبيخ بائت والشاي المحروق، نعال مكسوة بالأسمنت وسقالات رخوة في انتظار عبورنا الحذر، تلال رمل وطوب نرفعها إلى الأدوار العليا، صفائح البويات، وخلطات المونة ( والطواليش ) ونحن ندهن واجهات العمائر، لماذا ننسى ملامحنا، ما الذي يدهن وجوهنا هكذا بفرشة الهمِّ ويجعلها غائمة وصخرية، بسمة باهتة ووجوه كالحة وخليط من ألوان شتى تكسو الملامح، لا وقت لكي أحكي، الحمل على كتفي ثقيل، وصديقي يقترب من الولد ويقول:
كيف الحال يا زول؟
قلت ابتعد عن طريقه ودعه يعبر في سلام.
المدهش أن الولد تركه هو وسحقني بعينين ناريتين.
هذا الولد لماذا ينظر إلىَّ أنا تحديداً، وبتحدٍ هكذا؟ ..
في البداية كنت أظنها مصادفة، مجرد عينين جهنميتين تخرجان عليك فجأة من زحمة الناس والعمل وانشغالك، فتصرف نظرك بعيداً وتعيد ترتيب نفسك، ولكنني كلما التفتُّ فجأة أجده يراقبني من وراء الجدران والبراميل، وحين أقترب منه يغرس نظراته النارية في عمق روحي .
وأنا .. وفي كل ليلة أقوم وأنسلخ من بين شخير الرفاق وتأوهاتهم، أشق رماد الظلام والمصابيح الباهتة ومخلفات النهار، وألتصق بجدران أكشاكهم الخشبية، أتصنع تعديل حذائي وأنظر من بين الشقوق، جماعات يختلفون في أوضاعهم وغنائهم ونومهم وتفلية الرؤوس وحياكة الملابس وممارسة العادة السرية بشكل جماعي في الضوء الشحيح.
وبعض الأكشاك يجلسون في حلقات، يمسكون المسابح ويرددون الأناشيد، فتعلوا أصواتهم الرفيعة برقيق الكلام، كان عذباً ورائعاً ودافئاً ورائحة البخور مدهشة ..
أحدق.. شيء من حمائم خضر وأجساد تتطوح.. أسمع جماعاتهم يرددون :
” ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا .. هم السلاطين والسادات والأمرا ” (1)
أود لو أدخل بينهم، أغرس عيني في كتبهم الصفراء، أتأمل تأرجح الطواقي والعمائم، نداءٌ من وجد وهيام يجذبني، ولكنني أقاوم شيئاً خفيا.. ذلك الذي يحدث في الكُشك الأخير المنعزل، أمضي وأنظر بين الشقوق فأرى “لوكا الكاميروني” نائماً وحده وقد علّق ملابسه بعناية على الجدار الخشبي، بجواره سلة فيها كرة يلعب بها في العصرية وحقيبته التي يعلقها في كتفه وحذاؤه اللامع، كان نائماً بجسده الممتلئ ووجهه الطفولي ، يهش بعوضاً لحوحاً ويتقلب في ضيق، وأمُرُّ، حيث الكُشك الأخير وشيء يغرقني في الدهشة، أحشر نظراتي في الثقب، أرى هذا الولد يقف ملفوفاً بالضوء الباهت، يلف ويدور وينط، كان يمرق كخفاش بين عيونهم الزائغة، يلبسونه تاج السعف ويجلسونه عارياً، يركعون أمامه، بل كانوا يسجدون، وأنا أضرب صدري برهبة المندهش، أفرك عيني وأحملق، وهم يدورون حوله بالبخور، يحملونه على كرسي خشبي ويطوفون حول موقد الجمر، يرددون كلاماً مبهماً وطقوساً عجيبة، وأنا هنا خارج الجدار حيث الخلاء والظلام والرفاق هناك .. أستطيع أن أجري أهرب أبتعد، فلماذا ألتصق بالجدار إذن، وما الذي يجعلني أعوم هكذا في بحار الدهشة والهسيس، قدماي تتثاقلان وعيني ترى، شيء من الأساطير والترانيم وهدير جيوش قادمة وطبول، عمق غابات وأرض غير الأرض، وهم يلحسون جسده ويقربون إليه عضواً بشرياً، كانت ذراعاً مقضومة بوحشية ويداً يابسة ومفرودة كالمودع، وأنا أذوب في دهشتي، والصهد يخرج من بين الشقوق، يلفح وجهي شواء لحم نتن وشيح محروق وبخور وعطن أجساد تلهث عرقي، كانوا هم يرقصون ويميلون ويسجدون، وهو ينظر صوب الشق المظلم الذي أنظر منه، كانت مؤخراتهم عارية وسوداء ومخيفة، وأعضاؤهم تتطوح بين شعر غزير، كانوا يتدافعون ويلتصقون ويتماوجون، صراخ وتأوهات وطعنات وضوء شحيح، عيني تتأمل وجسدي يهيج، والولد الملتف بالرهبة ينظر صوبي، يشرخ عمق الروح بوهج عينيه الحمراوين .
في الصباح تمر أمامي أجسادهم بزفارتها، أراها رغم ملابسهم الخشنة عارية ومخيفة ومفجعة .
وفي ليال كنت أراهم يصنعون آلات موسيقية من أسلاك فرامل الدراجات، خيوط رفيعة ولامعة، أطراف أصابعهم المدببة تمر عليها، فأسمع شيئاً كانهمار المطر واندفاع السيل وحوافر خيل وانطلاق فهود خلف الفرائس وهزهزة الأعشاب في الغابات وتماوج الأشجار في عتمة الليل، وهم يطلقون أصوات رفيعة وسارحة وشارخة فضاء المكان، أكانت أغاني أم ندباً وعواءً ورقصاً ودغدغات أصابع في الضلوع .
في يوم العطلة يلعبون الكرة في ساحات المكان، يفسحون بقعة وينظفونها من كسر الخشب والدبش في لمح البصر، سيقانهم رفيعة وأقدامهم تنقل الكرة بحرفية مدهشة، كانوا دائماً يهزموننا، وكان هذا الولد هو الحَكَم دائماً، ينزلون على رأيه ولو كان خطأ وينحنون له، وحين ننحني نحن مجاملة يضحكون، والولد لا يضحك بل يترك الجميع ويرمقني بنفس العينين الناريتين، كان كلامهم قليلاً ومحكماً ولا يبدأون به، صامتون إلا مع أنفسهم، نودُّ لو نقترب من عالمهم أو نسمع الأخبار عن بلادهم البعيدة، نقف بالقرب منهم، نقول ربما يحتاجون منا شيئا، ملعقة أو سكين، ولكنهم لم يحتاجوا شيئاً أبدا، يغسلون أوانيهم بالرمل ويدعكونها جيدا، ويلملمون بقايا الحديد والخشب ويلحظون ما لا نلحظه، كانوا يعيشون في أكشاك متقاربة، و”ولوكا” من الكاميرون في كُشك وحده، يستحم كل يوم ويلعب الكرة بمهارة ويدرس في جامعة القاهرة، يزورنا ويزورهم، يحدثونه ولا يخالطونه، وكان لا ينقل لنا شيئاً عن أخبارهم، بل كان يتهرب عندما نسأله عنهم، ماذا يطبخون؟ وكيف يتحدثون؟ كم يساوي الجنيه المصري عندهم؟ هل يوميتهم مثلنا؟ يقبضون كل أسبوع أم يوميا ؟ ……؟ “لوكا” لا يحكي إلا ما يريده هو، مرة يحكي عن نفقة البعثة التي لم تصله مما اضطره للعمل في المعمار لمواصلة الدراسة، وعن بيتهم الذي به ملعب للتنس، وعن الجنس المباح عندهم، وعن السيارة التي انقلبت اليوم على جنبها في ميدان سفنكس، كانت محملة بالطماطم فتبعثرت ولملمتها نسوة العرب اللاتي يدرن بحميرهن يلتقطن الخبز اليابس والأشياء المنسية، يقول ذلك والفوطة على كتفيه العريضتين ما زالت مبتلة والصابونة في يده، ينطق العربية بلكنة مضحكة، كلمات مبتورة ومتناثرة، يطوِّح ذراعيه ويشرح بكل جسده ما لا يستطيع أن يوصله إلينا بالكلام، ونحن نسمع ونضحك ونلف أوراق المحشي ونعزم عليه فيتذوق ويتعجب، ويواصل حكيه عن هؤلاء النسوة اللاتي ما عبأن بأحد ورحن يحشرن الطماطم سليمة ومعصورة في أجولتهن، ورجال بعمائم يقترحون قلب السيارة بمن فيها على الجانب الآخر، والراكبون يلطمون من وراء الزجاج ويكبسون على سائق بُحَّت صرخاته، عيونهم غارقة في الرعب، والوجوه بالخارج تتماوج بين دهشة وضحك وفرجة، أصحاب العمائم يتطوعون ويهيلون الناس ويزيحون السيارة بصدور عريضة ويصيحون :
ـ أوءا يا بو الأَم . “أوع يا بو العم “
ونضحك من قلوبنا على لكنة لوكا وهو يصف أصحاب العمائم، ويلبس جلباباً من جلابيبنا المعلقة، ويلف الشال على رأسه، يهز الأكمام الطويلة ويقلدهم، ويؤكد أنهم تسببوا في تهشم عظام هؤلاء الذين كانوا سالمين في الكابينة.
كان قد أكل صحن المحشي وترك واحداً، أقسمنا عليه فابتلعه وسط ضحكاتنا، ومال علىَّ خلسة وهمسَ في أذني:
الزول يقول لك متبصش تاني .
ثم مضى …….
لماذا يكتشفون ما لا نكتشفه، وتبدو كل أفعالهم مدهشة رغم أنها طبيعية، لماذا عندما نذهب إلى المقهى الذي يجلسون عليه نترك الفرجة على فوازير “شريهان” وننتبه إلى عيونهم، واقتناص أيديهم المفاجئ للذباب المارق، ونظراتهم الثابتة وهم يتابعون التلفاز، يمر النادل أمامهم، ينقطع الإرسال ويعود،عيونهم ثابتة لا تطرف، أنائمون هم أم هائمون في المدى البعيد؟.
كل مساء أتوق إلى هذا المشهد الليلي، أتسلل من بين الرفاق النائمين وأمضي إلى هناك، أستند على جدران الأكشاك الخشبية خفيفاً كطيف، أتسمع وأرى: حلقات الذكر/ جلسة موسيقية/ نوم عميق/ جلسة عادة سرية/ لوكا نائم يتقلب في ضيق/ كُشكهم الأخير الخشبي …. هنا أتمسمر وأتابع في حذر.. وجبة ليلية بعدها أعود إلى نوم عميق، الأنفاس حولي ساخنة وأنا أغوص في بحار النوم:
” كان الولد هناك بين الغابات واندفاع الماء من هضاب الحبشة وتلال الطمي وسنون حراب الزنج، يرقد على تعريشة من سعف النخيل، يلتفت بتاجه صوبي .. أنا المدد في تابوت، عارياً أنا كيوم ولدتني أمي، عيناه على جسدي وأنا أنكمش، كانوا يقربونني إلى فمه المفتوح وهم يرقصون ويتماوجون وأعضاءهم تنتصب كالحراب وهم يتجهون إلي، كانوا ينتظرون إشارة منه، وكان إصبعه المرفوع يوشك أن يشير بالموافقة لولا صراخي الذي دشدش صمت الليل، فاندفعتْ إليَّ أحضانُ الرفاق يهدهدون جسدي الهائج ويقربون الماء إلى فمي:
سلامتك يا بو العم ….. مالك ؟
تاهت الكلمات وأنا أتحسس جسدي سليماً ونائماً بين الرفاق ملتفاً بالبطاطين وعفر الأسمنت، والأيدي الخشنة تحتضن ارتعاشتي.. فأشرب قليلا من ماءٍ بارد .. وأنام.
في الصباح توقف أمامي فجاة، ذلك الولد الخفاش، ملتفتاً كالنمر، كان صُلباً كمسمار وهو يعترض طريقي ويشير بإصبعه في وجهي:
متبصش تاني يا زول .
ثم مضى بإصبعه المفرود في رحم الخلاء .
محمد عبد الحكم حسن
كاتب وروائي مصري
عضو اتحاد كتاب مصر

اترك تعليقاً