كان يوم حر جدا حمل الشعر العامي هموم الوطن، وقضاياه، وآماله، معبرا عنها في تشكيل جمالي متنوع ومنفرد، فعمل على توسيع الثقافة بشكل كبير عندما اقترب الشاعر بلغته إلى أبسط الناس أميين كانوا أم متعلمين، فعمل على إذابة الفوارق، بالإضافة إلى أنه عبر عن شريحة عريضة من المجتمع من خلال تحميل النص الشعري بالقضايا الوطنية ـ والاجتماعية ـ والسياسية ، والثقافية . وغيرها عبر الشفافية الواضحة في صياغة كل شاعر لتجربته ، فمعجم الشعر العامي على الرغم من بساطته، إلا أنه يمثل تكثيفا دلاليا يعمل على توتر النص، وشد أواصره للوصول إلى المرجو، فالقصيدة العامية صارت حياة كاملة تمور فيها الذات بكل تناقضات الواقع ( مرارته وحلاوته – هزائمه – انتصاراته)، فلم تتوازي مع الواقع، أو تحاوره عن بعد، بل تكتب الواقع الحقيقي من خلال المواجهة و التجاوز ، وهذا ما عبر عنه( محمد عبد القوي) في نصه الشعري الذي يجسد فيه حالة من التمرد والارتداد أمام سلطة القهر الاجتماعي والسياسي ..وغيره؛ ليسعى إلى تصور عالم أكثر كمالا من عالم الواقع .فعلى الرغم من أن”الواقع مصدر إلهام للشاعر ، والشعر طريقة تعبير عن الواقع ، ولكن طريقة التعبير تختلف من عصر إلى عصر، فكل عصر له سمته التي تميزه عن الآخر، وأصحابه يعبرون عنه بلغة خاصة ، تفارقهم عن عصور سابقه و لاحقه ، فلكل زمن خاصيته ومشاغله وهمومه وذوقه الخاص به، والشاعر يختار لغته من العصر الذي يعيش فيه؛ لأن لكل عصر ذوقه ، فهناك طريقة تزاوج بين طريقة الشاعر في توظيف اللغة والطريقة التي تستخدم بها في المجتمع ـ لذلك يتأثر الشاعر بطبيعة اللغة عند جماعته، وفي عصره ، ولكن تبقي حساسية الشعر الشخصية التي تقوم بدور فعال في استخدام اللغة وتكوين الأسلوب الخاص بالشاعر فيقول ” في قصيدة واحدة فشل في كتابة قصيدة جديدة عن أولاده اللي نايمين فوق بعض فقعد يقلد توقيعات ضابط الجيش وفتح الشباك في ليل الشتا القارس علشان يتنفس بلدهم وهي نايمة * الفشل في كتابة القصيدة معادل لحالة الاستسلام التي تعيشها الذات داخل الواقع ، فتعمق الأثر النفسي لها من خلال سرد التفاصيل المحيطة بها، كما أن الأولاد رمز للوطن المزدحم العاطل ، والضابط رمز للسلطة المتغطرسة التي تفرد سطوتها من خلال التوقيعات التي تقلدها الذات ثم الانتقال إلى حالة زمنية داخل هذا الكبت الواقعي من خلال فصل( الشتاء )؛ ليعبر عن ثنائية متناقضة من خلال الدلالة بين حالة الاتصال والانفصال في مقاومة الواقع والاتصال به خارجيا والانفصال داخل هذا الفصل الزمني (الشتاء) الذي يرمز إلى حالة من الخصوبة والنماء داخل الواقع الحلمي الذي ينشده الشاعر داخليا ولا ينعم به خارجيا في الواقع . قصيدة اتننين وييجي الليل يهد البيوت والمكن والغيطان وحيل البنايين والصحاب يلخبط درعات في رجلين وروس ف درعات * الصبح يفرد خطاوي الطريق للبنا تتبني المفردات القوالب الحقول الفاضية التراب الكيمان القزاز القش والسل والحجارة بواقي الليل والقطط والكلاب بيبنوا العيال البيوت لاجل ما يجي الليل من تاني يهدها قصيدة تلاتة برضه الليل الليل سهران يتنفس ناس ومصاطب وبيوت وقطط وكلاب ومكن وغيطان وشجر وشوارع ف شهيق وزفير بعد ما تتملي رئتيه بأنفاسهم بيتنفسوا هما الليل تنفتح لسواقي البشر مرو لحيضان* قصيدة رابعة برغم وسع الكون إلا إني في اللي اسمه سرير متر ونص في مترين راكبين ثلاث عيال وأم وأب درعات في رجلين * طب كيف تصورهم للكون وهو اللي مضيق عليهم مش عاطيهم غير متر ونص ف مترين يبدأ المشهد الشعري في النص من خلال البنية الزمنية المتمثلة في مشهدين متضادين هما (مشهد الليل ومشهد الصباح ) ليمثل سيموفونية سحرية من خلال التكرار الذي يؤكد العودة على بدء، وإعطاء النص التوالد من جديد، وإضافة مشاهد أخرى لليل على الرغم من وجود الصباح ، فالصباح على الرغم من إشراقه وتجدده إلا أنه يمثل حالة عابرة للذات ، فلا يمثل لها ديمومة بقدر ديمومة الليل التي تتجدد فيه مشاهد الفعل من خلال حركة الأفعال المضارعة (يجي- يهد- يلخبط …)، ليظهر استمرار المعاناة التي لم تنته في هذا الواقع ، على الرغم من حالة الفعل والحركة القائمة في الصباح؛ ليصل إلى مفارقة ساخرة تتضح من خلال الدلالات المكونة لكل مشهد فما يفعله الصبح يزيله الليل ، فالليل يمثل قوة أو معادلا موضوعيا لنظام قامع لا يقيم شئ ينفع الذات فيعطي النفور منه ، ولكن سرعان ما يعود الشاعر إلى الليل متخذا منه كاميرا يرصد بها الواقع معتمدا على تقنية فن السينما في تجسيد حالة المعاناة القائمة علي الذات فيسرد الأحداث عبر لقطات تعمل كشريط فيديو في إيضاح اللقطات والوقوف عليها بصريا ونفسيا، وسمعيا ، بالاضافة إلى انفتاح النص على الفن الروائي في اعتماده على الليل كبطل النص من خلال الاحداث التي يقوم بها، فبما أنه رمز للسكون، فالشاعر يتنفس هذا السكون من خلال البناء النصي المعتمد على مفردات البيئة الريفية في( المكن – الغيطان – القش – القطط الكلاب – الطوب -البنا – المصاطب)، والمصاطب من الأماكن التي تبني أمام البيوت ومن عادة البناء في الأرياف أن الأشخاص عادة ما يتركون مساحة من الملك لبنائها للتنفس النقي والجلوس أمام البيت للمسامرة ، والتمتع بالجو الجميل ، فالشاعر لا يقف عند مشهد الليل فقط، بل يعرض مشهد الصباح في حياة جديدة موازية لحياة الليل في الفعل، ولكن ثمة بارقة من الأمل في حياة الصباح وإن اتسم الصباح بالهلامية والهشاسة؛ الا أن الوجود لا ينتهي كما في المفردات الدالة على ذلك مثل (القوالب – الحقول الفاضية – التراب – الكيمان القزاز القش – والسل والحجارة – الكيمان ) ،ثم يعود مشهد الليل مرة آخرى في هذا النص؛ ليجسد الضجيج والزحام النفسي، والمجتمعي من خلال هذه الصورة المتشابكة بكل الأوجه والتي تعمل على تعرية الواقع، وكشفه بطريقة فنية بارعة . (راكبين -ثلاث عيال وأم وأب – درعات في رجلين) . “ويتأثر الشاعر بمجتمعه وبيئته ، وبالظروف القائمة داخل مجتمعه ، ويعبر عن ذلك في شعره ، ويري “كلود دوسيه” أن كل ما في النص إنما يصدر عن فعل من أفعال المجتمع “فالمجتمع سابق في وجوده على العمل الأدبي” ( 1). قصيدة سادسة بياكل ف شهوة روحه سندوتش فول بايت وبيستحمى ذكريات يعتمد الشاعر على التصوير الساخر في مشهد تسيطر عليه الصورة البصرية من خلال أنسنة الجمادات وإتاحة الفرصة لها في التعبير عن مكبوتاتها؛ لتؤازر الشاعر حالة القمع الواقعة عليه وعليها فبتحرره تتحرر هي. سابعة رايح يصرف شيك القرض على عمر القطن بدون علم الدودة وغباوة الفلاحات ريف جف حاسب من المية لتشققه * الشاعر ينسج من ثقافة اليومي خطابا أدبيا؛ يكشف من خلاله الواقع الاقتصادي العام للمجتمع ، فالعمل الفني سواء أكان شعرا أو نثرا “لا يستمد جلاله، أو روعته من جلال الموضوع، أو من تقنياته فقط، وإنما يستمد قيمته من مدى صدقه في التعبيرعن هموم وآمال الشعب ومدى ارتباطه بواقعه”(2). فمعانقة الهموم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية …إلخ و استدعاء التفاصيل الحادثة داخل الواقع المعاش تعلي من قيمة الصور الجزئية داخل البناء المتماسك الذي يعتمد فيه الشاعر على آلية الاسقاط الاجتماعي والسياسي والنفسي لتجسيد معاني القهر والنفي …إلخ، فينطلق الشعر صوب الهددف المقصود ، فيستقي الكتابة من الحياة وتفاصيلها لا من الكتب؛ لأن هذه الكتب لم تجب عن سؤاله حول البشر، وما حدث لهم من تغيرات بفعل التغيرات الحادة في الحياة ، فتتفجر البنية الدلالية في النص من خلال الاتكاء على الدلالات الآتية (الليل – الصبح – السرير) فالدلالة الزمنية والدلالة المكانية التي تقوم عليها الأحداث، فالسرير يمثل معادلا موضوعيا للواقع الخارجي الضيق، لذا توجه له الأسئلة دون انتظار الإجابات مما يدل على عقم هذا الواقع أمام عين الشاعر . الهوامش * محمد حسن عبد القوي: كان يوم حار جدا الهيئة المصرية العامة للكتاب ص53-58 1- مرجع جان ايف تادييه ، ترجمة منذر عياشي ، النقد الادبي الحديث في القرن العشرين ، مركز الانماء الوطني الحديث الطبعه 1 1994 ص 106” 2- جمال أحمد الرفاتي ، أثر الثقافة العبرية في الشعر الفلسطيني المعاصر ،دار الثقافة الجديدة ص 7