الحلقة الثانية من رواية "درب الاعمى" للكاتب محمد عبد الحكم حسن

الحلقة الثانية من رواية “درب الاعمى” للكاتب محمد عبد الحكم حسن

من روايتى (درب الأعمى )
وهيبة
احترس من وهيبة.
تحذير توشك أن تسمعه من كل شئ حولك، إن لم تنطلق بفيض العافية فوق الدرج والسقالات، تعاند الريح والوجع وتصعد بالحمل الثقيل، ستخترق أصابعها القوية ظهرك وسط الضحكات والزغاريد والنكات والتسلية طوال اليوم.
واليوم هو التجهيز الأول ( للصبّة ) بإعداد براميل الماء الاحتياطي وتفريغ سيارات الزلط والرمل ونصب السقالات، والتأكد من سلامة الشدة الخشبية والحديد ومواسير الكهرباء، ولملمة القفازات والخِرق القديمة للف الأرجل خشية التسلخ.
يبدو المقاول أكثر حماساً وحركة واقتراباً منا، فيشمّر ويساعد من يرفع، ويحضر مزيداً من الطعام، يحييك بحميمية، ويعزم عليك بسجائره، ويقول ضاحكاً أمام الجميع:
إحترس من وهيبة .
كانت تنحني كجمل وتلملم الخشب المتساقط، وأنا من بين التزاحم والحركة أتأمل وجهها عن قرب هنا في بحبوحة الشمس، تبدو بلا ملامح كحفرية باهتة، لا شئ فيها من الأنثى سوى ثوبها الباهت المشجر ومؤخرة مكتنزة، شعر متجعد يتفلّت من الطرحة المحبوكة، ساقان قويتان، وكتفا مصارع، وللمرة الثانية وفي زحام الحركة يلتقي وجهانا.
إقتربت مني ومدت يدها وقالت :
كفك يا بو خالو .
سلمْتُ عليها، فأطبقتْ يدها الخشنة على يدي وجذبتني بقوة فتمسمرتُ مكاني، تلفتت حولها كأنما تستجمع الأنظار وصاحت بصوت خشن :
لا والله جامد يا ولد .
أحسستُ بارتياح يسري في أعماقي وأنا ألاحظ عيون الرفاق، أود لو أن كلامها تخطى الهدير وسّمَّع في أرجاء الكون ووصل إلى الدرب، إنها شهادة تعلو المؤهل الدراسي الذي حصلت عليه، شئ يؤكد وجودك وكيانك هنا، أن تشهد لك وهيبة فتستحيل حصاناً يكبو بلا هوادة على السقالات والدرج تحمل وتفرّغ وتبني وتثبت هويتك .
تلفتُّ أتابع عيون الرفاق، لم أكن أعرف أن عيونهم الغائصة في الوجوه الصخرية توشك أن تقولها صراحة، ليست هذه آخر جولة، إنما الفيصل عندما نجهز المونة ونبدأ رفعها فوق الأكتاف، إنها اللحظات التي تنسى فيها اسمك وملامحك وينطق فيها كيانك بالتأوه والأنين المكتوم، وأنت تعافر في لبد الفراغ وتحمل قصعة وضِعَتْ فيها جبال الأرض، أفواه تستعجلك من الأمام والخلف، وسقالة تترجرج تحتك كفرع صفصاف يوشك أن يهوي بك إلى قاع الجحيم، عندها ستعيد قراءة نفسك وروحك الكسيحة وجسدك الذي يتهشم تحت مطارق وأصابع وكرامة تنسحق.
حين وٌضعتُ القصعة على كتفي أول مرة، كان الرجل الصخري يحفن من كومة الجحيم ويحط، فأشعر كأنني مسمار يٌدَق في الأرض، كان يحدق فيَّ بغباوة وعداءٍ لا سبب له ويعبئ بانتقام، أحسست بكتفي يغوص بين مفاصلي، واللحم الغزير يتآكل، كادت روحي أن تتفلت هكذا كطلقة وأنا أحاول أول مرة بين الرفاق، كانوا قد سبقوني إلى العمل هنا منذ شهور وأصبح لهم وشماً يتباهون به، وأنا بين ألم ومعافرة تزاحمني حمائم الأفكار، هل شعروا بما أشعر به الآن من دوار مفاجئ، إن القصعة تنحت في رقيق الجلد وتسلخ شعب الروح، أكتم أنيني وألمي وأنا أرفع جبال الأرض وأصعد في الفراغ الحجري وعشرات النداءات تستعجلني ..
حين يتلكأ الواحد يرسلونها خلفه، تلك البنت التي حسبتها رجُلا، لقد لفَّت ساقيها بالخرق وبدت أكثر جهامة وتحد ووقفت بقصعتها في الصف لتأخذ دورها، كان الجميع يرمقونها برهبة دفينة خشية أن تفعلها في لحظة، هي الواقفة تهز كتفيها كمصارع يتهيأ للانقضاض، كان الرجل الصخريّ يعبئ في القصعة التي وضعتْها على رأسها ووقفتْ تريد المزيد، تنخس أصابعها في صدر العملاق وتصيح فيه:
حُط تاني يا كرّاك .
فترتفع المونة في القصعة “قبة رمادية بحجم الكون”، والبنت تصعد شامخة في جو السماء كحاملة القرابين، ربما غنّت بصوت أجش ومشت على لوح خشبي يترجرج بين حافتي الكون، كنت أخشى أن يرسلوها خلفي وهم يهتفون:
وراه يا وهيبة .
فأنطلقُ متحاملاً على ضعفي وهمٍّ أذلي، فهي حين تدركك تدب أصابعها في ظهرك قوية وخشنة وممزقة نسيج الكرامة، لا تملك سوى أن تتكئ على ضعفك وألمك وجبل المونة فوق كتفك، وتصعد بكل ما أوتيت من حيلة بين ضحكات وزغاريد وألسنة تتطوح وأصابع تدفعك حتى النهايات..
ثلاث مرات وأنا أحاول وأمضي بطيئاً وثقيلاً، وفجأة وجدت حراباً تخترق ظهري كمدراة غلال، خشنة وفاضحة ومؤلمة .
حين انطلقت الزغاريد والضحكات وشارات الرفاق، عرفتُ أنها هي التي تدفعني هكذا دون هوادة، فحبست دمعات تفرُّ وأنيناً يفجر الأحزان والنهنهات .
في الظهيرة ترنحّتْ أجسادنا على كومة الرمل، واستسلمنا لنمل يسري تحت الجلود، أنفاسنا ساخنة ولاهثة ونحن نتلوى تحت كرابيج خفيّة تنحر في المفاصل والضلوع.
كنت ما أزال أعالج الأمر داخلي، أحاول أن أختفي داخل نفسي آلاف المرات، أداري روحي المنهكة وأتلفت برأس يتدشدش تحت مطارق المذلة والهوان .
ما زالت آثار الأصابع ساخنة تلهب الظهر وتمتد داخل تجاويف الروح، فأترقب إشاراتهم، ربما سيبدأون الكلام علىَّ والضحك المتواصل، ستكون تلك الساعة التي نتناول فيها لقيمات الغداء مسرحاً لنظراتي المنكسرة، وهرولتي الحرجة وأنا أقفز فوق السقالة إثر الأصابع التي اخترقت عمق اللحم، أنقل ساقيّ المتعبتين بثقل تحت جبال الهمّ والمونة، وحديد القصعة يحفر في لحم الكتف حتى نخاع العظم، كان من الممكن أن أعتذر من المرة الثانية التي أصعد فيها بذلك الحمل، وجدتني أجاهد كي أواصل، تتراءى أمامي معيرة الرفاق وقلة الحيلة، ذلك العمل الذي حصلت عليه بعد مشقة، وكلامهم عليّ حين يعودون إلى الدرب، لم أكن مثلهم كانوا هم يعملون بالفلاحة وحمل السباخ والحصاد، وكنت أنا منشغلاً بالدراسة والمذاكرة وصيد السمك .
أختلس النظر إلى وجوههم، كانوا غرقى في عرقهم، يلهثون كمن خرجوا لتوهم من ماراثون بامتداد الكون، حقيقة كنت أخشى ان يعتدلوا هكذا فجأة في وجه الريح والفضاء وأكوام الرمل ليبدءوا في الضحك علىَّ، تشجعهم النسمات الصاعقة التي بدأت تكحت التعب قليلاً عن أجسادنا المترنحة.
البنت ما جلست، كانت تهيئ الموقد وعدة الشاي، تنبش بين الأكوام وتكسر في شراسة على ركبتها خشبة عصّية، فأسمع قعقعة عظامي تتهشم معها، كان جسدها ملتفاً بنتف القماش والملابس المهترئة، والشعر الخارج من جانبي الإيشارب كالحاً ومدهوناً بالتراب والأسمنت اليابس، تفرش الأكياس وتفك القراطيس وتضع الأرغفة وتشعل النار تحت البراد.
قوموا الغدا جاهز .
وبعصا صغيرة تنخسهم فيضحكون ويعتدلون في تعب .
قوم اتغدّا يا بيه .
لا أدري لماذا خصتني بذلك اللقب، ولماذا لم تنخسني بالعصا كالآخرين، ولماذا حين رأتني أدير وجهي في اتجاه آخر سحبتني من يدي، ووجدتُني مطاوعاً لها وهي تجلسني بجوارها على فرشة الغداء وتقرب أمامي الطعام وتقول :
كُلْ يا بيه علشان تقدر تكمّل .
كانوا قد بدءوا ينظرون إلىَّ ويضحكون، ولكنها سحقتهم بنظرات نارية وبدت أكثر هيبة وتجهم وهي تعنفهم :
كلوا وانتم ساكتين .
فلاذوا بالصمت والضحك المكتوم، تقرّب أمامي الجرجير والجبن واللفت المخلل وتشجعني :
كل يا بيه باين عليك ابن عز .
وضحكوا في عبهم، هم الرفاق الذين يعرفون اني لا أملك قيراطاً ولا بهيمة، وان الفقر يلازمني كظلي، وأن ما جاء بي هنا إلا الجوع وعدم معرفتي بالفلاحة، والغيرة من الرفاق الذين يعودون بالجنيهات والملابس وهدايا البنات، هم ربما يكون لديهم قراريط أو أفدنة، وأنا لا شيء لدي، كنت أود لو تعرف هذا، ولكنني لا أطيق النظر إليها، هذه البنت التي سحقت كرامتي وضحّكت الجميع عليّ، كانت كلما نظرتْ إلى وجهي أحسَّتْ بالخجل، لا أدري، ربما من وجهي الذي يزداد احمرارا ساعة الضيق، كان لا يجب عليها أن تعاملني هكذا، ربما كانت تريد أن تعتذر أو تلوم نفسها، ولكن لا أظن انها كانت خائفة .
أيام وتعودتُ على حمل قصعة المونة، وكنت أسبق الرفاق جرياً على الدرج والسقالات، وكلما انضم إلينا نفر جديد يحذرونه :
إحترس من وهيبة .
ولكنه لا يسلم مهما عافر، لا بد أن تلحقه وتغرس أصابعها الخشنة في ظهره، فيندفع إلى أعلى وسط الضحكات .
لماذا أنا الوحيد الذي كانت تعتذر لي، وتعطيني كوب الشاي أولاً، وتفسح لي مكاناً بجوارها على فرشة الغداء، وتسألني ساعة رحيلها آخر النهار إن كنت أريد شيئاً، وتحكي لي عن إخوتها الذين تقوم على تربيتهم، وأمها الكسيحة، والحجرات الرطبة التي تسكنها هناك في عرب الوالدة، حيث تقوم من الفجرية تنظف أمها وتطعم أخواتها وتعدهم للمدارس .
وتحكي لي عنهم :
” أخويا الصغير يشبهلك كده يا بيه دمه شربات، بس مغلبني، عاوز فلوس على طول، أبويا يا ندر عيني مات صغيّر، كان عنده الكبد بعيد عنك، كان شغال زينا كده باليومية، وأمي حزنت عليه لما بركت واتكسحت، وقال إيه عاوزنّي أطلّع اخواتي من المدارس وأشغلهم خدامين، طب هم اللي ساكنين في العمارات دي أحسن مننا ف إيه، يعلم الله يا بيه أنا بشتري لإخواتي الفاكهة بشاير علشان ما يراعوش لحد، ويمين بالله يمين رجالة ما دمت أنا على وش الدنيا لاخليهم أسياد الناس “.
تركب من عين حلوان إلى باب اللوق، وتغيّر من التحرير حتى هنا، نستيقظ نحن النائمون على صوتها والطوب المنهمر من يدها، ودكّ قدمها القوية فوق الأرجل والظهور، وصياحها الآمر :
قوموا يا كسالى الشمس طلعت .
فنصحو نجدها جهزت الشاي وفكت صرة الإفطار الذي اشترته لنا من عين حلوان ، ثم تخرج قرطاس الزلابية وتناولني :
والنبي يا بيه تاكل .
فيقشر الرفاق النعاس عن وجوههم ويصيحون :
دعيالك يا بو العم .
فترمقهم بنظرة خاطفة وتوجه أصابعها إليهم :
أسكت يا نطع أنت وهو .
فيأكلون في ضحك وانكسار وتذكّر لقسوة تلك الأصابع التي دفعتهم في ظهورهم حين جاءوا هنا أول مرة فرادى وجماعات .
لماذا أنا يا وهيبة الذي تصرين أن تعامليه بكل هذا الأدب، وتعتذرين لي في كل لحظة حين تقابلينني :
متزعلش يا خوي .. يا ريت يدّي كانت انقطعت .
لماذا تنهمر دموعك أمامي هكذا سخية من وجهك الصخري، حكيت لي عن كل شيء، جارتكم التي تتعمد إيذاءك وإثارة الكلام حولك بأنك ترقدين على تحويشة غليظة، وتبكين :
طب يا بيه منين، إخواتي في المدارس وأمي عاجزة واليومية يا دوب .
وحكيت لي عن الرجل ابن المنجوس الذي راودك عن نفسك، فدوبتِ الشبشب على فمه، وغرستِ أصابعك كاملة ولكن هذه المرة أسفل ظهره، وفرجتِ عليه الخلق، فحطّ كل واحد لسانه في فمه وعاملوك بخوف واحترام .
البهيم عاوز قال ينام معايا، طب يا بيه انا وش الحاجات دي؟.
اليوم كان مجيئك مبكراً قبل صحو العصافير، وكان وجهك الصخريّ يبدو ليناً وضاحكاً، وقرطاس الزلابية ساخناً تقربيه إلىَّ مع الاعتذار اليومي عما حدث منك أول مرة .
لماذا كنت تتحركين بيننا كحمامة، تجمعين الخشب وتتأملين وجوهنا بعين المفارق، أنت التي ارتضيناك أماً وأختاً وآمرة ومٌصلحة بين المتشاجرين منا، حين ترفعي أصابعك في وجوهنا مهددة :
تبوسوا على راس بعض وإلا . . .
فتلتقي الأحضان والضحكات، تمصمصين البراد وتجددين الشاي وتطبخين لنا قبل رحيلك في المغربية، تعللي من يمرض وتغسلي ملابسنا رغم اعتراضنا.
جرا إيه يا نطع أنت وهو .. انتم اخواتي .
لم تأخذي أجراً منا، ولم تنتظري حتى كلمة شكر، ولم تمنعي أصابعك القاسية يوماً عن ظهر من يتكاسل .
أول مرة أسمعك تغنين بصوت خشن ودافئ وحزين، ترددين غناء “حفني القناوي”:
” من حقي أقرا الكتاب .. وأشوف اللي اتمضى واتكتب “*
وتبدرين المواويل العتيقة، شيء عن كمّ الحسرة التي تدارينها، وذلك الألم الذي لم تحكه لأحدٍ سواي، لماذا لم تلتفتي تحتك وأنت تصعدين بقصعة المونة حتى الدور الأخير بين نداءات وضحكات، ورأسك الشامخ يرفع قبة الصخر ويخترق الفضاء كمسلة، هناك أعلا السقالة ولوح الخشب تحتك يترجرج ويوصل بين حافتي الكون، وأنت تمرقين بخفة وتدفعيننا أمامك بفرح :
شِدْ حيلك يا ولد …..
لماذا لم تحاذري الانزلاق .
كان سقوطك قوياً ،وآآآآآهتك ممطوطة كندب وأنت تنسلخين من شعاب أرواحنا،
هناك في قاع الكون كان جسدك طريحاً على أرض الهمّ، فوقك قصعة المونة تعلو كقبة، ويدك الميتة مفرودة أمام عيوننا الباصة تدفعنا إلى الأعالي.
محمد عبد الحكم حسن
كاتب روائي مصري
عضو اتحاد كتاب مصر
قد يهمك أيضا

اترك تعليقاً