عادل صابر يكتب

عادل صابر يكتب| قرص الفراكة

عادل صابر يكتب| قرص الفراكة
منذ سنوات طوال ، عندما كنا أطفالاً ، وفى يوم الخبيز المقدّس ، كانت امى عليها السلام تعجن العجين فى ماجور كبير ، ثم تبدأ فى تقطيع الأرغفة وتخرجها من الماجور لتضعها على (الدوّار) أو المقارص كما يطلق عليها بعض أهالى القرى الأكثر تطوراً ، وبعد أن تنتهى من تقطيع الخبز، يتبقَّى فى الماجور قطع صغير من العجين الملطَّخ فى جوانب الماجور من بقايا العجين ، تفركه أمى وتجمعه قطعة قطعة لتصنع به قرص صغير اقل سمكاً وحجماً من الرغيف نسمّيه ( قرص الفراكة ) أى أنه جاء من فرك الماجور بعد فراغه من العجين ، وتضعه على هامش الأرغفة ، وحيداً صامتاً كأنه رجل فقير دعاه أحد الأغنياء لوليمة فى فطور رمضان ، وبعد ان تضع أمى الخبز الشمسى فى الفرن البلدى التى تشبه امرة عجوز لاراعى لها ولامعين ، يكون (قرص الفراكة) آخر مايدخل الفرن ، وأول مايخرج منها ، وهنا يبدأ الصراع فى تناول هذا القرص الذى انتتظرناه طويلاً ، والجميع أنا وأخوتى نتمنى أن يكون هذا القُرص الناشف من نصيبه ، فهو منتهى أحلامنا ، ولانفكر فى الأرغفة الطرية الطازجة ، فهى لكبار البيت وضيوف أبى الغرباء حتى لايقال عنّا فقراء ، وينتهى صراعنا على قرص الفُراكة بأن تقسّمه أمى بالعدل بيننا ، لكل واحد قطعة لاتزيد عن قطعة الآخر تجنباً للمشاكل ، وكنا نشعر بفرحة غامرة ونحن نلتهم قرص الفُراكة الناشف وهو يذوب فى افواهنا كما تذوب حلاوة (شعر البنات ) فى فم الأطفال . كان قُرص الفُراكة هو محور تفكيرنا وكل أحلامنا وهو يخرج من الفرن ساخنا يابساً له لذة وطعم لايشعر به إلا من تذوَّقه، فكان كأنه جاتوه الفقراء .
مرّت السنون بحلوها ومرِّها ، وكبرنا ، ومات أبى وشاخت أمى ، وكثر عددنا بطريقة مخيفة ، لقد كنا خمسة أخوات ، أصبحنا ملايين من الإخوة المتصارعين ، وتفرّقنا ، وصار منا قليل من الأغنياء والسواد الأعظم فقراء ، واتسَع الماجور بطريقة غريبة حتى أصبح كالميدان الوسيع ، وازداد عدد الأرغفة ليكفى هذا العدد المهول من الناس ، وانقسم الأخوات إلى ثلاث طبقات ، طبقة الأغنياء القدامى ، وهم من يملكون الأرض والبقر وأبراج الحمام والأبعديات الشاسعة من الأرض المترامية الأطراف ، وطبقة الأغنياء الجدد الذين ذهبوا إلى بلاد الخليج وجاءوا بالعربات الفارهة ، والابراج العالية والشركات الفخمة ، وأما الطبقة الفقيرة الكادحة هم أصحاب الجلباب الواحد والأيدى المتشققة الخشنة بسبب القبضة على أيدى فؤوسهم ، هؤلاء الذين لايملكون بيتاً ولاقبرا ، وهم الأغلبية ، والمشكلة أن هاتين الطبقتين ، الغُناى القُدام ، والغُناى الجُداد ، رغم ثراءهم الفاحش ،مازالوا يسرقون الأرغفة الطازجة من الفرن ، ومازلت أنا وإخوتى الفقراء نتصارع على قُرص الفُراكة ، ونقتل بعضنا بعضاً من أجل هذا القرص الناشف ، اما امى فقد تركتنا نتصارع بعد أن شاخت وضعف نظرها وانهد حيلها، ولم تعُد تستطيع حتى تقسيم هذا القرص الناشف بين أولادها بالعدل والإنصاف . ومازلنا نجلس أمام الفرن الكبيرة السوداء ننتظر خروج قُرص الفُراكة ونحلم بالتهامه وهو يقرش بين أسناننا ، غير مكترثين بالأرغفة الطازجة لإنها بعيدة كل البُعد عن أحلامنا البسيطة التى اختزلناها فى قُرص الفُراكة !!
قد يهمك أيضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: